البريكس وأفريقيا- هل هو تحرر من الدولار أم تبعية مقنعة؟

في إحدى ليالي الشتاء القارسة في جوهانسبرغ، وتحديداً في شهر أغسطس/آب من عام 2023، اعتلى الرئيس الجنوب أفريقي، سيريل رامافوزا، منصة القمة الخامسة عشرة لمجموعة البريكس. كانت نبرته تحمل ما هو أبعد من مجرد بيان رسمي، حيث أعلن، باسم الدول الخمس المؤسسة، عن قرار تاريخي بتوسيع عضوية هذا التكتل، ليشمل ست دول جديدة، وهي: مصر، وإثيوبيا، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وإيران، والأرجنتين.
لم يكن هذا الإعلان مجرد مفاجأة، بل بدا وكأنه تجاوز كل التوقعات. ففي قاعة غصت بالكاميرات والمراقبين، كان وقع الأسماء الجديدة يتجاوز مفهوم التوسع، وكأنه يفتح الأبواب أمام نظام مالي بديل، أو على الأقل يعيد رسم خريطة النفوذ الاقتصادي العالمي.
وبين ثنايا الكلمات الرسمية وعدسات الإعلام، بدأت همسات تدور حول عملات بديلة، ونظام مالي جديد، ومصطلحات مثل "التحرر من هيمنة الدولار" و"إعادة التوازن النقدي العالمي" تتردد في الأرجاء.
كانت اللغة المستخدمة حذرة، ولكنها في عمقها تنبئ بتحول يتجاوز مجرد التحالفات الجغرافية؛ إنه حديث عن الجنوب العالمي الذي يستعد للخروج من قبضة الدولار، أو على الأقل لإعادة النظر في علاقته به.
لم تكن الكلمات صاخبة، إلا أنها كشفت عن الكثير. كانت، في جوهرها، إعلاناً صامتاً عن أن الجنوب العالمي، وأفريقيا في صلبه، يستعد لمرحلة ما بعد الدولار.
فعقود مضت، والدولار لم يعد مجرد عملة، بل تحول إلى أداة للهيمنة تنعكس بشكل كبير على اقتصادات الدول الأفريقية التي تسعى جاهدة لمواكبة تقلباته في ظل غياب سياسات نقدية مستقلة. وفي هذا السياق، تطرح البريكس بدائل جذابة، من نظم دفع موحدة إلى تمويلات بعملات غير غربية، ولكنها تثير تساؤلات جوهرية: هل يمكن التحرر من التبعية بالوقوع في تبعية أخرى؟ وهل تمتلك أفريقيا مشروعاً نقدياً ذاتياً، أم أنها لا تزال تتحرك ضمن خرائط يرسمها الآخرون؟
وبناءً على ذلك، يسعى هذا المقال إلى الاقتراب من هذه اللحظة الحاسمة، ليس فقط من خلال التحليل المالي، بل أيضاً من خلال طرح سؤال السيادة نفسه. فينطلق من واقع الاختلال النقدي المتجذر، ثم يتأمل في أدوات البريكس وإمكاناتها، وأخيراً يحاول التروي عند التساؤل الأخطر، وربما يدور حوله: هل نشهد بالفعل بداية خروج أفريقيا من هذا المدار؟ أم أننا ببساطة نقوم بتغيير اتجاه التبعية، وليس طبيعتها؟
ضيق العملة.. واتساع دائرة التبعية
في قلب المشهد النقدي الأفريقي، تتجلى هيمنة الدولار الأميركي كعنصر أساسي يقيد قدرة العديد من الدول على تحقيق استقرار اقتصادي مستقل. تُظهر تجارب دول مثل مصر ونيجيريا ودول منطقة الفرنك الأفريقي كيف أن الاعتماد المفرط على العملة الأميركية يعرض هذه الاقتصادات لتقلبات خارجية تعيق جهود التنمية المستدامة.
ففي مصر، شهد الجنيه المصري سلسلة من الانخفاضات الحادة، كان أبرزها في يناير/كانون الثاني 2023 بنسبة 40%، تلاها تعويم العملة في مارس/آذار 2024، مما أدى إلى انخفاض قيمتها إلى 0.02 دولار أميركي. أدت هذه التغيرات إلى ارتفاع تكاليف الواردات، وزيادة معدلات التضخم، مما أثر سلباً على القدرة الشرائية للمواطنين. بالإضافة إلى ذلك، تفاقمت أزمة العملة الأجنبية، مما دفع الحكومة إلى السعي للحصول على قروض من صندوق النقد الدولي بقيمة 3 مليارات دولار.
أما في نيجيريا، فقد تراجعت قيمة النيرة بشكل ملحوظ، حيث انخفضت بنسبة 47% من 770.38 نيرة مقابل الدولار في عام 2023 إلى 1.470.19 نيرة في عام 2024. وقد أدى هذا التراجع إلى زيادة أعباء الديون الخارجية، حيث ارتفع إجمالي الدين الخارجي إلى 42.5 مليار دولار أميركي في نهاية عام 2023، مما زاد من تكاليف خدمة الدين، وأثر على الاستقرار المالي للبلاد.
وفي دول منطقة الفرنك الأفريقي (CFA Franc)، التي تضم 14 دولة أفريقية في وسط القارة وغربها، يتم استخدام عملة مرتبطة باليورو بسعر صرف ثابت. تُلزم هذه الدول بإيداع 50% من احتياطاتها من النقد الأجنبي لدى الخزانة الفرنسية، مما يحد من سيادتها على سياساتها النقدية. هذا النظام يقيد التنمية الاقتصادية، ويعزز من التدفقات الرأسمالية نحو أوروبا، مما يضعف من قدرات هذه الدول على تحقيق نمو اقتصادي مستدام.
وعلى الصعيد العالمي، بدأت بعض الدول في اتخاذ خطوات لتقليل الاعتماد على الدولار. فعلى سبيل المثال، اتفقت الصين والبرازيل على استخدام عملاتهما المحلية في التبادلات التجارية، كما بدأت روسيا في استخدام اليوان الصيني في بعض معاملاتها التجارية. تُظهر هذه التحركات رغبة متزايدة في تقليل هيمنة الدولار.
وفي هذا السياق، تظهر مبادرات مجموعة البريكس كفرصة للدول الأفريقية لتعزيز سيادتها النقدية. إلا أن نجاح هذه المبادرات يعتمد على قدرة الدول على تطوير مؤسسات مالية قوية، وتعزيز التكامل الإقليمي، ووضع رؤية واضحة للسيادة النقدية. فبدون هذه الخطوات، قد تتحول هذه البدائل إلى تبعية جديدة، تعيد إنتاج نفس الاختلالات السابقة، ولكن بأدوات مختلفة.
إن التحرر الحقيقي لا يتحقق من خلال تبني بدائل جديدة فحسب، بل يتطلب بناء نظام نقدي أفريقي متماسك داخليًا، يستند إلى مؤسسات قوية، وتكامل إقليمي فعال، ورؤية إستراتيجية واضحة. فمن خلال هذه الأسس، يمكن لدول القارة أن تحقق السيادة النقدية الحقيقية، وتتجنب الوقوع في فخ التبعية بألوان جديدة.
حين تهمس البريكس بلغة أخرى
تسعى مجموعة البريكس إلى تقديم بدائل للنظام المالي العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، من خلال تطوير أدوات مالية مبتكرة تهدف إلى تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء وتقليل الاعتماد على العملات الغربية.
ومن بين هذه الأدوات، يأتي نظام "بريكس باي" (BRICS Pay)، وهو عبارة عن منصة دفع رقمية تعتمد على تقنيات البلوك تشين، وتهدف إلى تسهيل المعاملات عبر الحدود بين الدول الأعضاء باستخدام عملاتها المحلية، مما يقلل الحاجة إلى الدولار في التسويات الدولية.
وتشير التقارير إلى أن ما يقرب من 160 دولة قد تعتمد هذا النظام الجديد، مما يعكس الاهتمام العالمي المتزايد بتقليل الاعتماد على الدولار الأميركي في المعاملات المالية الدولية.
كما تدرس المجموعة إمكانية إنشاء عملة موحدة، تُعرف باسم "عملة بريكس"، لتكون وسيلة للتبادل بين الدول الأعضاء، مما يعزز الاستقلال المالي ويقلل من تقلبات أسعار الصرف المرتبطة بالدولار. وتشير الدراسات إلى أن هذه العملة قد تكون مدعومة بسلة من السلع الإستراتيجية، مما يضفي عليها استقرارًا وقيمة حقيقية في الأسواق العالمية.
بالإضافة إلى ذلك، أنشأت البريكس بنك التنمية الجديد (NDB) لتمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية المستدامة في الدول الأعضاء، مع التركيز على تقديم قروض بعملات محلية لتقليل مخاطر تقلبات العملات الأجنبية. في عام 2024، وافق البنك على قروض بقيمة مليار دولار لجنوب أفريقيا لمشاريع البنية التحتية، و200 مليون دولار لدعم مشاريع التنمية المستدامة في مصر.
فيما يتعلق بالتجارة، تسعى مجموعة البريكس إلى تعزيز استخدام اليوان الصيني في المعاملات التجارية بين الدول الأعضاء، مما يسهم في تقليل الاعتماد على الدولار وتعزيز مكانة اليوان كعملة دولية. وتشير البيانات أيضًا إلى أن استخدام اليوان في المعاملات التجارية بين دول البريكس قد ارتفع بنسبة 6% خلال السنوات الأربع الماضية، مما يعكس التوجه المتزايد نحو تنويع العملات المستخدمة في التجارة الدولية.
أما بالنسبة للدول الأفريقية، فتعد هذه المبادرات فرصة لتعزيز السيادة المالية وتقليل التبعية للنظام المالي الغربي (الأوروبي والأميركي). فمصر، على سبيل المثال، تأمل أن يساعد انضمامها إلى البريكس في جذب الاستثمارات وتخفيف أزمة العملة الأجنبية. أما نيجيريا، فتسعى إلى الاستفادة من تمويل بنك التنمية الجديد لدعم مشاريع البنية التحتية والتنمية الاقتصادية.
وفي المقابل، تواجه هذه المبادرات تحديات عديدة، منها الحاجة إلى توافق سياسي واقتصادي بين الدول الأعضاء، وتطوير بنية تحتية مالية وتقنية متقدمة، وضمان استقرار العملة الموحدة المقترحة. كما أن هناك مخاوف من أن تؤدي هذه البدائل إلى تبعية جديدة، خاصة في ظل الهيمنة المتزايدة للصين داخل مجموعة البريكس.
وبالتالي، في الوقت الذي تقدم فيه مجموعة البريكس أدوات واعدة لتعزيز الاستقلال المالي للدول الأعضاء، فإن نجاح هذه المبادرات يعتمد على قدرة الدول على التعاون والتنسيق الفعال، وتطوير مؤسسات مالية قوية تدعم هذه التوجهات.
تبعية مقنعة أم استقلال مؤجل؟
في الوقت الذي تسعى فيه أفريقيا إلى التحرر من هيمنة الدولار، تظهر مبادرات مجموعة البريكس كبدائل محتملة، إلا أن هذه البدائل قد تحمل في طياتها تحديات جديدة، مما يثير التساؤل التالي: هل ستفضي هذه البدائل إلى سيادة نقدية فعلية، أم أنها ستؤدي إلى تبعية بألوان جديدة؟
إن أحد أبرز التحديات يتمثل في الهيمنة المتزايدة للصين داخل مجموعة البريكس. فوفقًا لتقرير صادر عن East Asia Forum، تمثل الصين أكثر من 70% من الناتج المحلي الإجمالي للمجموعة، مما يمنحها نفوذًا كبيرًا في تحديد السياسات والتوجهات المالية. قد يؤدي هذا التركيز إلى تبعية جديدة، حيث تعتمد الدول الأعضاء على الصين بدلًا من الولايات المتحدة، مما يحد من استقلالية قراراتها الاقتصادية.
فرغم ما تتيحه مجموعة البريكس من أدوات بديلة، ومساحات للمناورة النقدية، فإن التحدي الحقيقي لا يزال داخل القارة نفسها. فأفريقيا، التي تضم أكثر من خمسين دولة متباينة في مستويات النمو والاستقرار والتكامل، تفتقر إلى قاعدة مؤسسية صلبة يمكن أن ترتكز عليها مبادرات التحرر من الهيمنة النقدية.
حيث تُظهر تقارير البنك الدولي أن ضعف البنية التحتية المالية، وتعدد العملات، وغياب التنسيق بين السياسات النقدية والمالية، جميعها تعمق من حالة التشظي، وتضعف إمكانية بناء نظام نقدي موحد أو حتى منسق وظيفيًا.
ففي الغرب الأفريقي، يستمر ربط الفرنك الأفريقي بالخزانة الفرنسية كقيد تقني وسياسي معًا، بينما تعاني دول الشرق من ضغوط تقلبات الأسواق، ونقص احتياطيات النقد الأجنبي، أما في الجنوب، فرغم مرونة المؤسسات كما في حالة جنوب أفريقيا، فإن الاعتماد على تدفقات رأسمالية مضاربة يبقي الاستقرار معرضًا للاهتزاز.
فالمشكلة، إذن، ليست في غياب البدائل، بل في هشاشة الأرضية التي يفترض أن تُبنى عليها تلك البدائل. فالبديل الحقيقي لا يأتي من خارج المشهد والسياق، بل من إعادة ترتيب داخلي شجاع، يعيد تعريف العلاقة مع السوق، ومع السياسة المالية، ومع أدوات التنسيق الإقليمي. ومهما تعددت مسارات الانفكاك الظاهري، فإنها ستظل عرضة للارتداد، ما لم تُحسم الأسئلة البنيوية أولًا.
في انتظار السيادة.. لا المخلص
في عالم تُعيد فيه القوى صياغة موازينها، لا يكفي أن تخرج دول أفريقيا من شبح هيمنة الدولار، إن لم تكن قادرة على الوقوف في ظلها الذاتي. فالمشكلة لم تكن في العملة وحدها، بل في المسافة الطويلة بين القرار والمصدر، بين الحاجة والقدرة، بين التبعية والمبادرة.
تطرح مجموعة البريكس أوراقًا جديدة على الطاولة، وبعضها يحمل وعدًا حقيقيًا بمساحة أوسع للحركة، لكنها أوراق لا تكتمل إن لم تُقرأ من الداخل أولًا. فالنوافذ وحدها لا تُحدث تغييرًا إن كانت الجدران متصدعة، والمؤسسات واهنة، والرؤية غائبة أو مؤجلة.
فالسيادة النقدية لا تُمنح، ولا تُستورد، بل تُبنى لبنة لبنة. فاتفاقية التجارة الحرة القارية الأفريقية ليست مجرد مشروع تكامل اقتصادي، بل ربما تكون الإطار الوحيد الذي يمكن أن تُكتب فيه خارطة استقلال نقدي حقيقي، تتقاطع فيه الإرادة مع البنية، والسياسة مع الإنتاج، والمصالح مع المستقبل.
فأفريقيا التي تطمح إلى التحرر، لا يكفيها أن تستبدل العملة بعملة، بل أن تعيد كتابة شروط العلاقات، لا مع واشنطن أو بكين فحسب، بل مع ذاتها أولًا. فهي وحدها القادرة على أن تجعل من تلك النوافذ أبوابًا تُفتح باتجاه السيادة، لا مجرد ممرات جديدة للنفوذ القديم، أو الجديد الذي لم يتضح مدى أفقه بعد.